فصل: مسألة نخل بيع وفيه خمسة أوسق وقد وجبت الزكاة فيها على البائع فأصابتها جائحة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة نخل بيع وفيه خمسة أوسق وقد وجبت الزكاة فيها على البائع فأصابتها جائحة:

ومن سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الصبرة قال يحيى: وسئل ابن القاسم عن ثمر نخل بيع وفيه خمسة أوسق، وقد وجبت الزكاة فيها على البائع، فأصابتها جائحة تنقصها من الخمسة الأوسق التي كانت الزكاة إنما وجبت على البائع من أجلها؛ أتوضع الزكاة عن رب الثمرة للجائحة التي نقصتها مما يجب الزكاة في مثله؟ فقال: إن بلغ ما أصاب الثمرة من الجائحة الثلث فأكثر حتى يلزم البائع أن يضع ذلك عن المشتري، سقطت عنه الزكاة بذلك؛ لأن الثمرة قد صارت في البيع إلى ما لا يجب فيه الزكاة؛ وإن كان ما أصاب الثمرة من الجائحة أقل من الثلث، لم يوضع ذلك عن المشتري، ولم تسقط الزكاة عن البائع؛ لأنه قد باع خمسة أوسق تجب فيها الزكاة، ثم لم يرد من الثمن شيئا للجائحة، فإذا لم يسقط ثمن الجائحة عنه، فالزكاة واجبة عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما أجيح من الثمرة إذا لم يبلغ ذلك الثلث، فالمصيبة فيه من المبتاع؛ لأنه تلف على ملكه بعد وجوب الزكاة على البائع، وما أجيح منها فبلغ الثلث، فإنما تلف على ملك البائع، فالمصيبة منه، فوجب أن يعتبر ذلك في النصاب، وهذا على مذهب من يجيز البيع ويرى الحكم بالجائحة، وهو قول مالك، وجميع أصحابه؛ وأما على مذهب من يجيز البيع، ولا يرى الحكم بالجائحة، فالزكاة واجبة على البائع- وإن أذهبت الجائحة الثمرة كلها، وأما على مذهب من لا يجيز البيع، فالجائحة وإن قلت: تسقط الزكاة إذا صارت الثمرة بها إلى أقل مما تجب فيه الزكاة، ويفسخ البيع، وهو مذهب الشافعي- وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة أكل من حائطه بلحا أومن زرعه قبل أن يفرك الزكاة فيه:

ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع:
وسئل: عن الرجل يأكل من حائطه بلحا، ثم يأتي الخارص، أيحسب على نفسه فيما يخرص عليه ما أكل بلحا، فقال: ليس ذلك عليه، وليس هو مثل الفريك يأكله من زرعه، ولا مثل الفول يأكله أخضر، أو الحمص، وما أشبه ذلك.
قال محمد بن رشد: أما ما أكل من حائطه بلحا، أومن زرعه قبل أن يفرك؛ فلا اختلاف في أنه لا يحسبه، لأن الزكاة لم تجب عليه بعد فيه؛ إذ لا تجب الزكاة في الزرع حتى يفرك، ولا في الحائط حتى يزهى؛ واختلف فيما أكل من ذلك كله أخضر بعد وجوب الزكاة فيه بالإزهاء في الثمار، أو بالإفراك في الحبوب، على ثلاثة أقوال؛ أحدها: قول مالك: إنه يجب عليه أن يحصي ذلك كله ويخرج زكاته، والثاني: أنه ليس عليه أن يحصي ذلك ولا يخرج زكاته، وهو قول الليث بن سعد، ومذهب الشافعي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].
والثالث: أنه يجب عليه ذلك في الحبوب، ولا يجب ذلك عليه في الثمار، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع» وهو قول ابن حبيب إن الخراص يتركون لأصحاب الحوائط قدر ما يأكلون أخضر ويعطون، وقد روي مثل ذلك عن مالك؛ وهذا إنما يصيح على القول بأن الزكاة لا تجب في الثمار إلا بالجذاذ، وهو قول محمد بن مسلمة؛ وفائدة الخرص على هذا- إنما هو مخافة أن يكتم منها شيء بعد اليبس، أو بعد الجذاذ، فإن خشي ذلك في الزرع، فقد قال ابن عبد الحكم: يوكل الإمام من يتحفظ بذلك؛ قيل: إنه يخرص إن وجد من يحسن خرصه، وهو أحسن- والله أعلم.
والمغيرة يرى الزكاة تجب في الثمار بالخرص، ففي حد وجوب الزكاة في الثمار ثلاثة أقوال؛ أحدها: المشهور في المذهب أنها تجب بالطياب، والثاني: أنها تجب بالجذاذ، وهو قول محمد بن مسلمة، والثالث: أنها تجب بالخرص- وهو قول المغيرة- جعل الخرص فيها كالساعي في المواشي، فإن مات صاحب الثمرة قبل أن يخرص، خرصت على الورثة إن كان في حظ كل واحد منهم ما تجب فيه الزكاة.

.مسألة وقت بيع الزرع:

وسئل: عن الرجل يبيع الزرع- وقد أفرك، والفول- وقد امتلأ حبه وهو أخضر، أو الحمص، أو العدس، أو ما أشبه ذلك، فيتركه مشتريه حتى ييبس ويحصده، أيجوز بيعه؟ فقال: إن علم به قبل أن ييبس، فسخ البيع، وإن لم يعلم به إلا بعد أن ييبس، مضى البيع ولا يفسخ، وليس هو مثل أن يشتري الثمرة قبل أن تزهي؛ لأن النهي جاء في بيع الثمرة قبل أن تزهي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ واختلف العلماء في وقت بيع الزرع، فقال بعضهم: إذا أفرك، وقال بعضهم: حتى ييبس، فأنا أجيز البيع- إذا فات باليبس، لما جاء فيه من الاختلاف، وأرده- إذا علم به قبل اليبس.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن العقد فيه فوت، وقيل: إن القبض فيه فوت، وقيل: إنه لا يفوت بالقبض حتى يفوت بعده- وهو ظاهر ما في السلم الأول من المدونة، فهي أربعة أقوال، وهذا إذا اشتراه على أن يتركه حتى ييبس، وكان ذلك العرف فيه؛ وأما إن لم يشترط تركه، ولا كان العرف ذلك؛ فالبيع فيه جائز- وإن تركه مشتريه حتى ييبس، وقد قيل: إن بيع الفول أخضر يشترط أن يتركه المبتاع حتى ييبس جائز، والقولان قائمان من كتاب الجوائح في المدونة، وأما بيع الحب إذا أفرك على أن يترك حتى ييبس، فلا اختلاف في المذهب في أن ذلك لا يجوز ابتداء؛ وإنما يختلف في الحكم فيه- إذا وقع، والشافعي لا يجيز بيعه- وإن يبس- حتى يصفى؛ لأنه عنده غرر، ولو بيع قبل أن يفرك- لفسخ- وإن فات بعد القبض- وبالله التوفيق.

.مسألة يعطي الرجل نصف ثمرة حائطه قبل أن تطيب:

من سماع سحنون من ابن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الرجل يعطي الرجل نصف ثمرة حائطه قبل أن تطيب، قال: الزكاة في الحائط، ثم يقتسمان ما بقي، والسقي عليهما، قلت له: فإن كان أعطى النصف للمساكين، قال: إن السقي على رب الحائط.
قال محمد بن رشد: قوله الزكاة في الحائط- يريد إن كان في حظ كل واحد منهما من ثمرته ما تجب فيه الزكاة، أو كان له ثمر من حائط آخر ما إذا أضافه إليه، وجبت فيه الزكاة؛ لأن الثمرة الموهوبة قبل الطياب لمعينين، مزكاة على ملك الموهوب لهم عند ابن القاسم، وهو قوله في المدونة، وغيرها؛ وقد قيل: إنها مزكاة على ملك الواهب، وهو مذهب سحنون؛ فصرفنا هذه الرواية بالتأويل إلى المعلوم من مذهب ابن القاسم- وإن كان ظاهرها مثل قول سحنون، وكذلك العرية على المعينين كالصدقة يزكيان على ملك المتصدق، والمعري؛ وقيل: إنهما يزكيان على ملك المتصدق عليه والمعرَى؛ وقيل: إن العرية تزكى على ملك المعرَى، والصدقة على ملك المتصدق عليه؛ وقيل: إن زكاة العرية تؤخذ من مال المعرى، لا من ثمرة المعرى؛ ففي العرية- على هذا قولان؛ أحدهما: أنها على المعرى في ماله، والثاني: أنها لا تجب إلا في ثمرة العرية؛ فإذا قلت: إنها تجب في ثمرة العرية، فهل تؤخذ منها على ملك المعرى أو على ملك المعري؛ في ذلك قولان، فهذا تحصيل القول في هذا، وأما إن كان أعطى النصف للمساكين، فلا اختلاف في أنه يزكى على مالك المعطي، ولا في أن الزكاة تجب فيه إن بلغ جميع ثمر الحائط ما تجب فيه الزكاة أو كان لرب الحائط ثمر سواه- إذا أضافه إليه، وجبت فيه الزكاة.

.مسألة نقل الزكاة عن فقراء الموضع الذي أخذت فيه إلى غيره:

نوازل سئل عنها سحنون قيل لسحنون: أرأيت القوم يكونون في الحضر ومزارعهم من الحاضرة على البريد، أو النصف بريد أيقسم المصدق صدقة زرعهم ومواشيهم في تلك القرى؟ أم على أهل الحاضرة؟ فقال: إن كانت تلك القرى مسكونة وفيها فقراء، فهم أولى بها من غيرهم، قيل له: فما أخذ العامل على أربعة أميال، أو ثلاثة؟ فقال: يقسم على فقرائهم، ولا ينقل إلى المدينة.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذا، أنه لا ينبغي أن تنقل الزكاة عن فقراء الموضع الذي أُخذت فيه إلى غيره، وإن كان الفقراء في غير ذلك الموضع أكثر، خلاف ما مضى في رسم العشور من سماع عيسى.

.مسألة وجبت عليه زكاة ماله فأخرجها فوضعها في غير قريته:

وسئل سحنون: عن رجل وجبت عليه زكاة ماله، فأخرجها فوضعها في غير قريته- وفي قريته فقراء، هل تجزئه زكاة؟ قال: لا تجزئه.
قال محمد بن رشد: يريد أنها لا تجزئه في الاختيار والاستحسان، لا أنه يجب عليه إعادتها فرضا، بدليل قوله في المسألة التي قبلها وفي المسألة التي بعدها؛ وكذلك تأول عليه قوله محمد بن اللباد، وغيره، وقد روى علي بن زياد، وابن نافع، عن مالك أن من زرع من أهل الحاضرة على عشرة أميال، فلا بأس أن يحمل من زكاته إلى ضعفاء عنده بالحاضرة، ومثله في كتاب ابن سحنون، وقال مالك في كتاب ابن المواز في الذي يبعث من زكاته إلى العراق، أن ذلك واسع، وأحب إلي أن يؤثر من عنده من أهل الحاجة- إن كانت الحاجة عندهم.

.مسألة زرع في أرض قريته ثم يحمل زرعه إلى قرية يسكنها غير التي زرع فيها:

وسئل سحنون: عن رجل زرع في أرض قريته ثم يحمل زرعه إلى قرية يسكنها غير التي زرع فيها، وكل ذلك في إقليم واحد، أو في إقليمين، إلى من يدفع زكاته، قال: أحب إلي أن يدفع زكاة كل زرع إلى فقراء أهل كل موضع ينبت فيه الزرع، إلا أن يكون بين الموضعين قريب، فتجمع الزكاة في موضعه؛ لأنه ملك واحد.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة من قول سحنون، تبين قوله في المسألة التي قبلها؛ لأن الزكاة ليست لمساكين بأعيانهم، فتضمن إن دفعت إلى غيرهم؛ وإنما هو الاختيار والاستحسان في دفعها إلى أولى الناس بها بالاجتهاد- وإن كانت هذه أخف من تلك؛ لأنه إنما فرق زكاته في موضع سكناه بخلاف تلك، وبالله التوفيق.

.مسألة زكاة الفطر عن خادمين من رقيق امرأته:

من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب الزكاة والصيام قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: يؤدي الرجل زكاة الفطر عن خادمين من رقيق امرأته- إذا كان لها شرف وغناء، وإلا فواحدة.
قال أصبغ: ذلك عندي حسن، كما أن عليه أن ينفق على خادمين لها- إذا كانت بذلك الموضع من القدر والغناء، والشرف، والتوسط فيه؛ لأن مثل هذه لا تكتفي بخدمتها وأمورها- الخادم الواحدة، فإنما ذلك على الأقدار والحالات، ولو ارتفع قدرها جدا مثل ابنة السلطان العظيم، والقدر الكبير، ومثل بنت الملك، نحو الهاشميات، رأيت أن يزاد في عدد الخدم لبيتها وخدمتها وخدمة ما يقوم مثله من الخدم بخدمتها في بيتها، وشأن نفسها من الأربع والخمس، ويلزم الزوج نفقتهم وزكاتهم.
قال محمد بن رشد: نحو هذا لمالك في مختصر ابن شعبان، وفي المبسوط، والمبسوطة، وفي العشرة ليحيى عن ابن القاسم، أنه ليس على الزوج أن ينفق من خدم زوجته على أكثر من خادم واحدة، ولا يؤدي صدقة الفطر إلا عن التي ينفق عليها، ولو ارتفع قدرها ما عسى أن يرتفع ليس عليه أكثر من ذلك، وهو ظاهر ما في المدونة.

.مسألة الرجل من زرعه ويعطي ويعلف فرسه أيحسبه في زكاة عشوره:

قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: يأكل الرجل من زرعه، ويعطي ويعلف فرسه ودوابه، ويحسب ذلك في زكاة عشوره، يتحراه ويحتاط فيه، وقاله أصبغ؛ هو عليه ولو قدر قتة قرط أو ربطة يحسبها، ويخرج عنه العشر.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته.

.مسألة الاشقالية التي تكون بالأندلس هل فيها زكاة:

قال ابن القاسم: وسئل عن الاشقالية التي تكون بالأندلس- ووصفت له، فقال: فيها الزكاة، وقال: لا تجمع إلى القمح، ولا إلى الشعير، وهي صنف وحدها.
قال أصبغ: وسمعت ابن وهب وزيادا فقيه الأندلس يسأله عنها ويصفها له، فرأى فيها أيضا الزكاة، قال أصبغ: وذلك رأيي، وهو يزرع بالأندلس تكون في أكمام كالزرع، وتكون علوفة البقر، وربما احتيج إليها طعاما- إذا أجهدوا، وهي حبة مستطيلة مصوفة في طول الشعير- وليس على خلقته؛ وهي إلى خلقة السلت، وإلى القمح في خلقه أقرب، وليس من القمح، ولا الشعير، وهو صنف كالذرة وغيرها من حبوب الزكاة.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ في الاشقالية: إنها ليست من القمح ولا الشعير، وإنها صنف كالذرة وغيرها، هو مثل قول ابن القاسم: إنها لا تضم إلى القمح، ولا إلى الشعير، خلاف ما حكى عنه ابن حبيب، وعن جميع أصحاب مالك- إلا ابن القاسم من أنها تضم إلى القمح، والشعير، والسلت، وقال الشافعي- في العلس: إن خرج من أكمامه اعتبر فيه خمسة أوسق، وإن لم يخرج من أكمامه، فإذا بلغ عشرة أوسق، أخذت صدقته؛ لأنه حينئذ يكون خمسة أوسق، ولا يضم إلى غيره من الحبوب على أصله من أنه لا يضم من الحبوب إلى غيره ما انفرد باسم دونه، وخالفه في الخلقة، والطعم؛ وتجب الزكاة عند مالك في جميع الحبوب، والقطاني التي تدخر للاقتيات؛ وقول الشافعي نحوه، قال: ما كان منها يدخر ويقتات مأكولا، أو خبزا، أو سويقا، أو طحينا؛ وقال الليث: كل ما يختبز، فيه الصدقة؛ وقال الأوزاعي مرة مثل قول مالك، ومرة لا تجب الزكاة من الحبوب إلا في القمح، والشعير، والسلت- والله أعلم بالصواب.

.مسألة يكون عليه زكاة حب فيخرج عينا:

من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: وقال ابن القاسم: في الرجل يكون عليه زكاة حب فيخرج عينا، قال: أرجو أن تجزئ عنه؛ قيل له: فرجل وجب عليه عين فأخرج حبا؟ قال: يعيد، قيل له: فإن أخرج في زكاة الفطر عينا؟ قال: يعيد، قيل له: فإن أخرج في زكاة الفطر عدسا، أو حمصا- وذلك عيش أهل تلك البلدة؟ قال: هذا لا يكون، ولو كان ذلك عيشهم، رجوت أن يجزئ عنهم.
قال محمد بن رشد: وجه تفرقة ابن القاسم بين أن يخرج عن العين حبا، أو عن الحب عينا؛ هو أن العين أعم نفعا؛ لأنه يقدر أن يشتري به ما شاء من جميع الأشياء، والحب قد يتعذر عليه أن يشتري به شيئا آخر حتى يبيعه بعين فيُعْنَى من ذلك ولعله يبخس فيه، وقال ابن حبيب: إنه لا يجزيه في الوجهين- جميعا، إلا أن يجب عليه عين فيخرج حبا- إرادة الرفق بالمساكين عند حاجة الناس إلى الطعام- إذا كان عزيزا غير موجود، وقال ابن أبي حازم، وابن دينار، وابن وهب، وأصبغ: لا أحب له أن يفعل ذلك أبدا، فإن فعل وكان فيه وفاء لما كان وجب- أي ذلك كان- أجزاه، وهذا القول أظهر الأقوال؛ ووجه الكراهية في أن يخرج خلاف ما كان عليه، وإن كان فيه وفاء بما عليه، ما في ذلك من معنى الرجوع في الصدقة؛ لأنه قد اشترى الصدقة التي كانت عليه بما دفع فيها، وليس ذلك بحقيقة الرجوع فيها، إذ لم يدفعها بعد، وأيضا فإن الحديث إنما جاء في صدقة التطوع، وقد روي إجازة ذلك عن جماعة من السلف، منهم: عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعمر بن عبد العزيز، وأبو الزناد، ووجه تفرقة ابن القاسم بين أن يُخرج العين عن الحب، أو عن زكاة الفطر هو أن زكاة الفطر قد جاءت السنة بتسمية ما يخرج منه، فلا يتعدى ما جاءت به السنة في ذلك، وقد مضى في رسم حلف من سماع ابن القاسم- القول فيما تؤدى منه زكاة الفطر، فلا معنى لإعادته.

.مسألة النصراني يسلم والعبد يعتق وقد أزهى ثمره متى تجب عليهم الزكاة:

وسئل عن نصراني أسلم، أو عبد أعتق، أو مكاتب أدى كتابته وقد أزهى ثمره، أو استحصد زرعه، متى تجب عليهم الزكاة؟ قال ابن القاسم: إذا أسلم النصراني، أو أعتق العبد، أو أدى المكاتب كتابته قبل حلول بيع الثمار فعليهم الزكاة، وإن كان بعد حلول بيع الثمار، فلا زكاة عليهم فيه، وهو بمنزلة الورثة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن النصراني، والعبد، ليسا من أهل الزكاة، فلا زكاة عليهما، إلا أن تبلغ الثمرة أو الزرع- حد وجوب الزكاة فيهما- وهما من أهل الزكاة؛ وهذا ما لا اختلاف فيه، وبالله التوفيق.

.مسألة الاشقالية هل تجمع في الزكاة مع القمح والشعير:

ومن كتاب المدنيين:
مسألة وسئل ابن كنانة عن الاشقالية- وفسر له أمرها ومنفعتها- هل تجمع في الزكاة مع القمح والشعير، أو هل فيهما زكاة؟ فقال: نعم، هذا صنف من الحنطة، يقال له العلس يكون باليمن- وهو يجمع مع الحنطة في الزكاة، وفيها الزكاة؛ قال ابن القاسم: فيها الزكاة، ولا تجمع إلى القمح، ولا إلى الشعير.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مطرف أنه لا زكاة فيها، وقد مضى بقية القول في هذا في سماع أصبغ، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.

.كتاب الجهاد الأول:

.ما غنمه المسلمون من متاع العدو فلم تكن له قيمة:

من سماع ابن القاسم من مالك رواية سحنون بن سعيد من كتاب أوله حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، قال: سمعت مالكا يقول في القوم يكونون في الغزو فيغنمون الغنائم، فيلقون أشياء مثل القصعة، وأشباه ذلك، لا يبتغونها ويسلمونها، فيأخذها الرجل، أترى أن تكون له؟ قال إذا أسلموها فارتحلوا عنها، فأراها له ولا أرى فيها خمسا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما غنمه المسلمون من متاع العدو فلم تكن له قيمة، ولا وجد له ثمن لزهادة الناس فيه، وعجز الإمام عن حمله فلم يقبله، ولا ضمه إلى غنائم المسلمين؛ فالواجب أن يخلى بين الناس وبينه لمن أخذه على غير قسم دون سائر الجيش، ولا يكون فيه خمس؛
لأن الوجه فيه- إن لم يأخذه أحد، أن يحرق ولا يترك للعدو ينتفعون به؛ فلما كان هذا هو الوجه فيه، وجب أن يكون لمن أخذه وانصرف إلى بلده حلالا، ولا يكون عليه أن يتمخى من شيء منه، والأصل في هذا قوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في ضالة الغنم: «هي لك أو لأخيك أو للذئب». هذا فيما تقرر الملك عليه، فكيف بما لم يتقرر عليه الملك للمسلمين، لكونه بعدُ في حوزة المشركين، وكذلك إن أخذ ذلك أحد فحازه، ثم عجز عن حمله فألقاه وتركه، كان لمن أخذه بعده فاحتمله، ولا اختلاف في هذا- أعلمه، وإنما اختلفوا فيمن صار إليه شيء من غنائم المسلمين باشتراء أو قسم، فضعف عن حمله وتركه على وجه اليأس منه في حوزة العدو، فوجده أحد من الناس فأخذه واحتمله، فقيل هو كالأول يكون لمن أخذه واحتمله- وإن كان مما له ثمن من السبي والمتاع، وهو قول ابن حبيب؛ وقيل إنه للأول- وعليه أجر الحمل والمؤنة، وهو قول أصبغ، وسحنون؛ وجه القول الأول أن الأول لم يملكه ملكا تاما فأشبه ما أخذه مما أسلم وترك من غنائم المسلمين بغير شراء ولا قسم؛ ووجه القول الثاني: أن الأول لما كان قد اشتراه أو صار له في سهمه، كان لمن وجده فاحتمله- حكم الشاة الضالة يجدها الرجل في الفيفاء فيقدم بها إلى الأحياء، أن ربها بها أولى؛ وأما إن كان ترك ذلك في حوزة الإسلام، فهو للذي تركه، وعليه مؤونة حمله قولا واحدا؛ قال ابن حبيب: فإن كان في ذلك شيخ أو عجوز فهم أحرار؛ لأن تركه مثل أولئك، إنما هو على وجه التخلية لهم والتحرير، وأما ما كان من متاع العدو يقبله الإمام ولا يضعف عن حمله، وله ثمن وإن قل، فأخذه غلول، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة».

.مسألة القوم يخرجون إلى الغزو ومعهم بفضل أموال يشترون من الغنائم:

وسئل مالك عن القوم يخرجون إلى الغزو ويخرجون معهم بفضل أموال يشترون من الغنائم إذا سبوا الجواري والخرثى، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله لا بأس بذلك أمر جائز للرجل إذا خرج للجهاد أن يخرج معه بفضل مال ليشتري به من مغانم المسلمين ما يرجو الربح فيه، ولا ينقص ذلك من أجر جهاده، ولا يقدح في نيته، يريد إذا كان أصل خروجه لله، ولم يكن أصل خروجه ابتغاء التجارة، كما لا يقدح في نيته ما يرجوه من الغنيمة، وقد قال الله عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52]. يريد الشهادة أو الغنيمة. وقد أباح الله تعالى التجارة في الحج بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]. يريد في مواسم الحج، وقد قرئ ذلك؛ وكذلك الجهاد، بل هو فيه أجوز، لما في ذلك من النفع لأهل الجيش؛ لأن الشأن أن تقسم الغنائم في بلد الحرب قبل القفول، كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والخلفاء بعده، فما كان منها ما لا ينقسم، باعه الإمام وقسم ثمنه، فلو لم يكن مع أحد من أهل الجيش فضل مال، لما أمكنه أن يقسم ما لا ينقسم، إلا بعد الخروج إلى قاعدة يكون فيها الأسواق، ويمكن فيها البيع؛ وفي ذلك ضرر على الجيوش لما لهم من الرفق في تفرقهم من طريقهم إلى بلادهم، وترك رجوعهم إلى بلد واحد؛ ولهذا المعنى قال ابن حبيب: إنه لا ينبغي للإمام أن يبيع شيئا من متاع الغنيمة الذي لا ينقسم، إلا بالنقد إلا أن يرى في ذلك ضررا على الناس فيبيع ويكتب على المبتاعين الأثمان حتى يخرجوا، ثم يتقضاها منهم ويقسمها بين الناس قبل أن يتفرقوا.

.مسألة يعطي الذهب في سبيل الله فتفضل الفضلة أيردها إلى أهلها:

وسئل مالك عن الرجل يعطي الذهب في سبيل الله، أو في حج يحج به فتفضل الفضلة؛ أيردها إلى أهلها؟ أم كيف يصنع؟ قال: أرى أن يعطي أهل سبيل الله، فقيل له: ولا ترى أن يردها؟ قال: لعله لا يجد صاحبها، وأحب إلي أن يجعلها في سبيل الله يعطيها غيره. وقال في الحج: يردها إلى أهلها.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك أن من أعطى رجلا شيئا في السبيل- عينا كان أو عرضا، فأمره محمول على أنه قد بتل ذلك في السبيل، فلا ينفق المعطى شيئا منه إلا في سبيل الغزو منذ يخرج إلى أن يبلغ رأس مغزاه، واختلف هل ينفق منه في فعله حتى يرجع إلى أهله، فأجاز ذلك له ابن حبيب، ومنع منه مالك في رواية أشهب عنه في رسم الوضوء والجهاد، ولا يستحق منه ما فضل بعد الغزو ملك، ولا يرجع ذلك إلى معطيه ملكا أيضا، ويجعله في السبيل- إن رده إليه، واستحب في هذه الرواية ألا يرد الفضلة إلى صاحبها مخافة ألا يجده، وأن يجعلها هو في السبيل. وقال في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب ذلك واسع إن رد الفضلة إلى صاحبها، أو جعلها هو في السبيل، ونحوه في رسم طلق بعد هذا، وإن قال معطي الشيء في السبيل أنه لم يبتله في السبيل، وأراد أن يأخذ الفضلة نوى في ذلك، وكان القول قوله على ما في رسم حديث طلق بعد هذا من هذا السماع، وكذلك إن قال: أردت أن يكون للمعطى ما فضل من ذلك بعد غزوه- ملكا يضع به ما شاء، نوى من زكاة أيضا، وكان من بمنزلة أن لو نص على ذلك فقال له: افعل به ما شئت إذا بلغت غزوك؛ وهو كذلك على ما يأتي في رسم باع غلاما من هذا السماع أيضا، فمذهب مالك في هذه المسألة على ما ذكر في موطئه عن عبد الله بن عمر، أنه كان إذا أعطى شيئا في سبيل الله، يقول لصاحبه إذا بلغت وادي القرى، فشأنك به، خلاف ما ذكر فيه عن سعيد بن المسيب من أنه كان يقول إذا أعطى الرجل الشيء في الغزو فبلغ به رأس مغزاته فهو له؛ وقول عبد الله بن عمر الذي ذهب إليه مالك أظهر من قول سعيد بن المسيب؛ لأن ظاهر اللفظ التبتيل في السبيل، فينبغي أن يحمل على ذلك حتى ينص المعطي على خلاف ذلك، أو يدعي أنه نواه، وقد روي عن سحنون كان من أعطى شيئا في السبيل يستحقه المعطى ملكا ببلوغه رأس مغزاه- على قول سعيد بن المسيب؛ وحكى الفضل أنه مذهب مالك وأصحابه، وليس ذلك- عندي بصحيح؛ ومكحول يرى أنه يستحقه بالأدراب، وتأول فضل أن ذلك هو مذهب ابن عمر في الموطأ، وهو تأويل بعيد، وقد روي عن سحنون أنه إن أعطيه لينفقه في السبيل- على نفسه، رد الفضل على صاحبه؛ وإذا أعطيه لينفقه في السبيل- وليس على نفسه، يرد ما بقي في السبيل ولم يرده على صاحبه، واختلف إن كان الذي أعطى في السبيل فرسا أو سلاحا، فقيل: إنه محمول على التحبيس حتى ينص على التبتيل، حكى ذلك سحنون عن ابن القاسم عن مالك، وقيل: إنه محمول على التبتيل حتى ينص على التحبيس، وهو ظاهر ما يأتي في رسم طلق، وفي رسم باع غلاما، ورسم صلى نهارا، وأما من أعطى رجلا شيئا في حج، فما فضل على الحج، راجع إلى المعطى ملكا؛ والفرق عند مالك بين المسألتين: أن السبيل لا نهاية له، فحمل على التبتيل، والحج له نهاية ينقضي إليها، فحمل على ذلك، ولم يحمل على التبتيل؛ فعلى قياس هذا لو أعطاه الذهب في غزوة بعينها، لوجب أن يرجع إليه ما فضل له عنها؛ ويأتي على قياس قول سعيد بن المسيب إن من أعطى رجلا ذهبا في حج يحج به، فما فضل عن الحج هو للمعطى، لا يرجع إلى المعطي؛ لأنه إذا قال ذلك في السبيل الذي لا نهاية له، فأحرى أن يقوله في الحج الذي له نهاية.

.مسألة يهلك فيوصي بالمال في سبيل الله كيف يقسم:

وسئل مالك عن الرجل يهلك بالفسطاط، أو بقرية من القرى، فيوصي بالمال في سبيل الله، أترى أن يُبعث به إلى الثغور والرباط فيقسم، أم يعطى إن وجد أحدا بموضعه ممن يغزو؟ قال: أرى أن يعطى إن وجد أحدا ممن يغزو، فقلت له: إنه يقول إني أخاف أن يموت الذي يعطى قبل أن يبلغ غزوه، قال: وما ذلك عليه أن يقول أخاف أن يموت.
قال محمد بن رشد: إنما استحب أن يعطى ذلك بالبلد- إن وجد من يغزو منهم ولا يبعث به إلى الثغور- مخافة أن يبعث به إلى هناك، فيضيع على ما قاله بعد هذا في رسم طلق، وقد خير بين ذلك في رسم الوصايا من سماع أشهب من كتاب الوصايا، قال ابن المواز: وإنما يعطيه لمن قد عزم لا لمن لا يخرج إلا بما يعطى، وقوله يحمل على التفسير لقول مالك؛ لأن من لم يعزم على الخروج إذا أعطي على أن يخرج لعله يأخذ المال فلا يخرج.

.مسألة ذبح الغزاة في أرض العدو من الجزر في جلودها هل يطرح في المقاسم:

وسئل مالك عما ذبح الغزاة في أرض العدو من الجزر في جلودها، أترى أن تطرح في المقاسم؟ أم يأخذها الذين يذبحونها؟ قال: أرى إن كان لها ثمن أن تطرح في المقاسم، وإن لم يكن لها ثمن، لم أر به بأسا أن يأخذوها.
قال محمد بن رشد: قوله إن الذين يذبحونها يأخذون الجلود إذا لم يكن لها ثمن. يريد- وإن لم يحتاجوا إليها على معنى ما تقدم في أول مسألة من هذا الرسم، وقد مضى بيان ذلك، وأما إن كان لها ثمن فلا يجوز لهم أخذها إذا لم يحتاجوا إليها؛ لأن ذلك من الغلول وتُطرح في المقاسم؛ واختلف إن احتاجوا إليها لشد قتب بعير أو نعل، أو شبه ذلك؛ فقال ابن نافع: لا يأخذونها إذا كان لها ثمن- وإن احتاجوا إليها. وروى ابن القاسم عن مالك في المدنية أنه لا بأس أن يأخذوها إذا احتاجوا إليها- وإن كان لها ثمن؛ ومثله في الواضحة، وهو ظاهر ما في المدونة وبالله التوفيق.